السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
روي في الحِلْية، والمدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، عن القاسم بن محمد أنه قال: كان اختلاف أصحاب محمد رحمة لهؤلاء الناس (وجاء التعبير بالرحمة في قول الإمام مالك للرشيد) وأن اختلاف العلماء رحمة من اللَّه على هذه الأمة، وقد ورد القول على ألسنة علماء ومحدثين قولهم: "إن اختلاف هذه الأمة رحمة من اللَّه لها، كما أن اختلاف الأمم السابقة كان لها عذاباً وهلاكاً، ولأئمة الشريعة الإسلامية وفقهائها أقوال كثيرة حول الاختلاف.
ويرى العلامة القسطلاني المتوفى سنة 923 هـ في "المواهب اللدنية" أن الاختلاف من خصائص هذه الأمة المحمدية: حيث يقول: >إجماعهم حجة، واختلافهم رحمة<، وحكى الشيخ ابن تيمية، رحمه اللَّه، في مجموع الفتاوي عن أحد العلماء ولم يُسَمّه أنه كان يقول: "إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة".
وقد وجدت هذه المقولة الطيبة الصادقة في كلام ابن قدامة في مقدمة كتابه: >المغني<، وكان عظماء رجالات السلف ينظرون إلى اختلاف الأئمة أنه توسعة من اللَّه تعالى ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأساس .
ويقول القاسم بن محمد بن أبي بكر، أيضاً: لقد نفع اللَّه باختلاف المسلمين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، في أعمالهم، لا يعمل العالم بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سَعَةٍ، ورأى أن أخاً خيراًً منه قد عمله، وروى ابن عبد البر: ما ذكر مسنداً أن عمر بن عبد العزيز، قال: >ما أحب أن أصحاب رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ، لم يختلفوا، لأنه لو كانوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سَعَةً< .
وقال الإمام السيوطي، رحمه اللَّه، في أوائل رسالته: >جزيل المواهب في اختلاف المذاهب<: فصل (اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعَمِِيَ عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي عليه الصلاة والسلام ، جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة ؟! ، إلى أن قال: فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه المِلة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة، ومن سَعَتِها أنه وقع فيها التخيير بين أمرين، شرع كل منهما في ملة كالقصاص والدية، فكأنما جمعت الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث: وهو التخيير الذي لم يكن في إحدى الشريعتين.
ومن ذلك مشروعية الاختلاف بينهم في الفروع، فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام ، بجميعها، وفي ذلك توسعة زائدة لها، وفخامة عظيمة لقدر النبي عليه الصلاة والسلام ، وخصوصية له على سائر الأنبياء، حيث بعث كل منهم بحكم واحد، وهو بعث عليه الصلاة والسلام ، في الأمر الواحد بأحكام متنوعة يحكم بكل منها، وينفذ، ويصوب قائله، ويؤجر عليه، ويُقتدى به، ويؤكد علماء سابقون أن الاختلاف يفتح الآفاق ويُعمل العقل، ويُثري الفكر ويزيد في محصلات العالم والمتعلم على السواء.
وهناك من العلماء ممن يرى أن الاختلاف غير مشروع، مستدلين بآيات وأحاديث صحيحة تبين أن طريق التشريع واحد، وأن الاختلاف منهي عنه، ولنا أن نسلم بذلك عند وضوح النص وثبوت الدليل، فإذا كان غير كذلك، فإن الاختلاف وارد حتماً ولا ضير فيه، وإذا ثبت وجود دليلين صحيحين حول قضية واحدة فإنه يجب الترجيح، والأخذ بالأحوط، سنداًً ورواية ودراية، حتى لا تضيق السبل، أو نضلَّ الهدى، وإذا علمنا أن الدين الإسلامي دين يسر واتفاق، لا دين عسر وافتراق، فإن الرحمة في الأثر تعني استخدام العقل وإعمال النصوص التشريعية إعمالاً ينسجم مع رحابة الدين الإسلامي، ولهذا التزم العلماء المبرزون منهج الاجتهاد، والدعوة إليه، في الوقت الذي أوجبه آخرون، وفق قاعد اصطلاحية وأسس مسلم بها ومتفق عليها، كما أغلق الجميع باب التكفير والتفسيق إلا بدليل قاطع، ولذلك أتت ثمار الاختلاف طيبة هنيئة، لتؤصل روح التسامح، وتعمق رحابة الدين الإسلامي الواحد، ولتؤكد رفض الشريعة للتعصب والجمود أو التشدد، مع الالتزام بترك التضاد والتباين والتدابر بين الفرق الإسلامية، عملاً بدليل الكتاب والسنة في رفض التفرق في جوهر الإسلام وعلاقات الأخوة الإسلامية، وما يصلح أمر الأمة المحمدية.